مقدمة:
للحملة الفرنسية على الشرق, أو حملة نابليون على مصر عام 1798, كان أكبر الأثر وتعتبر نقطة تحول هامة في تاريخ الشرق الأوسط الحديث بشكل عام وتاريخ مصر وفلسطين بشكل خاص. خلال مقالي هذا سأتناول بالدراسة والتحليل العلمي والموضوعي أسباب ودوافع الحملة, سير الحملة ونتائج الحملة, بشكل يستطيع من خلاله القارئ والباحث أن يستخلص ويستنتج مدى تأثير الحملة الفرنسية على الشرق ومدى أهميتها, ولماذا الحملة الفرنسية على مصر وفلسطين تحتل حيزًا وجزءًا هامًا من كتب ومصادر التاريخ الحديث لمنطقة الشرق الأوسط؟ ومدى التغيرات والتحولات التي واكبت المنطقة برمتها, خلال فترة الحكم الفرنسي وبعده.
في صيف عام 1798, وبالتحديد في 19 أيار سنة 1798, خرجت قوات معززة من الجيش الفرنسي من مدينة طولون في جنوب فرنسا, وهذه القوات وُضعت تحت قيادة ومسؤولية ضابط صغير السن آنذاك في الجيش الفرنسي, وعبقري بالتخطيط والتكتيك العسكري, ويدعى نابليون بونابرت(1) (Napole’on Bonaparte), عُرف فيما بعد هذا الجيش بـ "جيش الشرق" الفرنسي (Arm’ee d’orient), وكان قوام وتعداد جيش نابليون آنذاك 36826 جنديًا وضابطًا, يرافقهم حوالي 1200 عالم وخبير فرنسي. هدف قوات الحملة الفرنسية احتلال مصر وبلاد الشام بهدف السيطرة على الطريق التجارية للهند ورفع شأن فرنسا كدولة عظمى واستعمارية في أوروبا.
قبل وصول قوات الجيش الفرنسي إلى مصر, احتلت هذه القوات جزيرة مالطة التي كانت تحت حكم فرسان القديس يوحنا, والذين كانوا تحت حماية قيصر روسيا, ومن ثم تابعت الحملة سيرها نحو مصر. وبالرغم من تعقب الأسطول الانجليزي بقيادة الاميرال نلسون (Nelson) لتحركات الأسطول الفرنسي, إلا أن الأسطول الإنجليزي لم يتمكن ولم ينجح بمعرفة هدف ووجهة القوات الفرنسية.
في 21 تموز سنة 1798 نزلت القوات الفرنسية بميناء الإسكندرية, وفي أولى المعارك بالقرب من الأهرام – معركة الأهرام – اشتبك الجيش الفرنسي بقيادة نابليون مع قوات المماليك, وكان الانتصار في هذه المعركة حليف القوات الفرنسية. ورغم أن قوات الأسطول الإنجليزي تعقبت مسيرة القوات الفرنسية واشتبك الطرفان في معركة أبي قار, التي تغلب فيها الأسطول الإنجليزي بقيادة نلسون والذي استطاع إبادة الأسطول الفرنسي عن بكرة أبيه, لكن ذلك لم يعرقل ويمنع نابليون من فرض سيادته وسيطرته على مصر.
أسباب الحملة:
لحملة نابليون على مصر وفلسطين فيما بعد عدة أسباب, منها ما يتعلق بفرنسا (أسباب داخلية) ومنها ما يتعلق بالوضع الدولي والمصالح التجارية والسيادة على المناطق الغنية والاستراتيجية (أسباب خارجية). والمصادر التاريخية تشير إلى أسباب الحملة الفرنسية بالعوامل التالية:
أولا: أطماع فرنسا الاستعمارية بفرض سيادتها وسيطرتها على الطريق التجارية القصيرة بين البحر المتوسط والهند والتي تمر بالشرق الأوسط.
ثانيًا: الانتقام من بريطانيا, العدو الرئيسي لفرنسا في تلك الفترة والتي أعلنت الحرب على فرنسا, واستمرار التنافس الاستعماري القديم بينهما, وحينما فشلت محاولات فرنسا بمهاجمة بريطانيا واحتلالها, فالشرق الأدنى ومصر, كان ميداناً آخر للمس وإلحاق الضرر بانجلترا العظمى.
ثالثًا: كانت مصر تعتبر أغنى ولايات وأجزاء الامبراطورية العثمانية من ناحية اقتصادية وتجارية, عدا عن كونها مركزًا استراتيجيًا وتجاريًا مُهمًا ومصدرًا للمنتوجات الزراعية بسبب خصوبة أراضيها وإمكانية استغلالها لإنتاج المحاصيل الزراعية في المستقبل.
رابعًا: ضعف الامبراطورية العثمانية والسلطة في استانبول وسقوط هيبتها كدولة قوية وعظمى بأعين الدول الأوروبية.
خامسًا: البحث عن فتح أسواق جديدة لتصريف البضائع الفرنسية والسلع المصنعة من فرنسا.
سادسًَا: اضطهاد التجار الفرنسيين من قبل المماليك الموالين لانجلترا, فكثرة الاعتداءات المتكررة من قِبل حكام مصر على التجار الفرنسيين, دفع بالحكومة الفرنسية للعمل على توفير الحماية لرعاياها والإعلان المباشر لفرنسا من إرسال حملتها إلى مصر (الهدف المعلن)هو توفير الحماية للتجار الفرنسيين من ظلم واعتداء المماليك عليهم, وليس هدف الحملة هو الاعتداء على أملاك السلطان العثماني.
سابعًا: سعي وكره رجال حكومة الدايركتوار – الحكومة الفرنسية – لنابليون القائد العسكري الذي نبغ بالحنكة والتكتيك العسكري, وسعيهم للتخلص من وجوده في فرنسا وإبعاده إلى منطقة بعيدة عن مركز السلطة, على أمل ألا يعود مطلقًا إلى فرنسا.
ثامنًا: الطموح والأطماع الشخصية لنابليون بونابرت بإقامة امبراطورية فرنسية عظمى, تكون صاحبة السيادة في الشرق والغرب بدون منازع.
تاسعًا: الوضع السياسي والعسكري الدولي عشية الحملة, كان ملائمًا لخروج حملة عسكرية على مصر, فالسلطنة العثمانية ضعيفة وغير قادرة علىالدفاع عن ولاياتها وأراضيها وروسيا القيصرية والنمسا منشغلتان بالحرب فيما بينهما باقتسام أراضي بولندا وبريطانيا عدوة فرنسا ولعدم معرفتها بوجهة الحملة, ستركز طاقاتها وقوتها بالدفاع عن بريطانيا والجزر البحرية التابعة لها, ولم تأخذ بالحسبان إمكانية السيطرة الفرنسية على الطريق التجارية للهند, مركز بريطانيا التجاري والاقتصادي.
جميع هذه الأسباب وغيرها, تعتبر الأسباب الحقيقية والرئيسية لحملة نابليون على الشرق (مصر والشام).
مصر والشام عشية الحملة الفرنسية
بلاد الشام ومصر عشية الحملة الفرنسية كانت تخضع لسيادة وسيطرة الامبراطورية العثمانية وذلك منذ عام 7/1516م, حينما دخل السلطان العثماني سليم الأول (1512-1520) بلاد الشام ومصر وبعد قضائه على السلطة المملوكية, ومنذ ذلك التاريخ ضمت عاصمتي الخلافة المملوكية السابقتين: دمشق والقاهرة, لسلطة ونفوذ الخليفة العثماني, الذي أصبح يُعرف ويلقب بحامي الحرمين الشريفين.
خلال هذه الفترة منذ الفتح العثماني وحتى الحملة الفرنسية على مصر (1798), شهدت المنطقة الكثير من الأحداث والتغيرات, بلغت ذروتها بفترتي السلطان سليم الأول, والسلطان سليمان القانوني (1520-1566), فخلال فترة هذين السلطانين وصلت السلطنة العثمانية إلى أوج ذروة قوتها وتوسعها في آسيا وأوروبا وامتازت بقوة السلطة المركزية في استانبول, لكن الوضع لم يبق كذلك في فترات لاحقة, خاصة حينما تولى أمور الخلافة والسلطنة, سلاطين ضعفاء وأمور الدولة أديرت تارة من قبل الوزير وتارة أخرى من قِبل جنود الانكشارية أو الحُكام المحليين.
خلال فترة الحكم العثماني قُسمت البلاد والمناطق العربية إلى ولايات إدارية, يحكم كل ولاية وال يعينه السلطان العثماني, وبلاد الشام شملت أربع ولايات وهي: الشام, حلب, طرابلس وصيدا. أما مصر فاعتبرت جميعها ولاية واحدة.
و مع ضعف السلاطين العثمانيين زاد نفوذ الفئات المحلية بشكل بارز, وفي مصر تجلى ذلك بازدياد نفوذ المماليك, كحكم علي بك ومحمد بك أبي الذهب, حتى نزول قوّات نابليون في الإسكندرية عام 1998, ومع الغزو الفرنسي لمصر يعتبر في الواقع بداية النهاية لحكم المماليك في مصر.
نابليون يحتل مصر:
في أوائل شهر تموز عام 1798 وردت إلى القاهرة أنباء نزول قوات نابليون بونابرت في الاسكندرية الذي بدأ في 1 تموز, وحينما لم ينجح سكان المدينة بالدفاع عنها, احتل نابليون وجيشه الاسكندرية ليبدأ بناء الحجر الأول في طريق السيطرة الفرنسية على مصر لفترة تقارب الثلاث سنوات, وهذه الحقبة التاريخية رغم قصر مدتها سيكون تأثيرها على مصر والمنطقة مُهماً وذا تأثير لعدة أجيال فيما بعد, وعن ذلك سنتطرق بتوسع في سياق مقالنا لاحقاً.
بعد أن نجح نابليون بفرض سيطرته على الاسكندرية وبعد تدبير أمورها الإدارية, توجه على رأس جيشه لاحتلال عاصمة البلاد القاهرة. وفي أولى المعارك البرية بالقرب من الأهرام, اشتبك الجيش الفرنسي بقوات المماليك, عُرفت هذه المعركة فيما بعد بمعركة الأهرام والانتصار فيها كان حليف نابليون, إذ تمكن الجيش الفرنسي من إخضاع والتغلب على الجيش المملوكي وتمّ ذلك في 21 تموز 1798, واضح أن لانتصار القوات الفرنسية المدربة والمجهزة بالأسلحة الحديثة والمدافع على جيش الخيالة المملوكي, كانت عدة أسباب وعوامل لا مجال هنا للدخول والتوسع في أسبابها ونتائجها والخطة العسكرية وما إلى ذلك. المهم أن انتصار الفرنسيين في معركة الأهرام فتحت أمامهم الطريق لاحتلال القاهرة, وتمّ ذلك للفرنسيين في 22 تموز 1798. وبالرغم من أن الجنرال نلسون قائد الأسطول الانجليزي, نجح في تعقب الحملة الفرنسية ونجح في أن يبيد الأسطول الفرنسي عن بكرة أبيه في معركة أبي قير البحرية (أو معركة النيل كما تُسمى ببعض المصادر التاريخية), شرقي الاسكندرية وتمّ ذلك في 1 آب 1798, مما أدى إلى قطع الطريق البحرية بين نابليون وقواته بمصر مع فرنسا, لكن بالرغم من ذلك استطاع نابليون بونابرت من فرض سيطرته وسلطته على مصر بعد أن انتزع أمور الحكم والسلطة من المماليك.
مؤرخ ومعاصر أحداث الحملة الفرنسية لمصر, عبد الرحمن الجبرتي, سرد بمؤلفه وكتابه القيّم "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" الوقائع التفصيلية لبداية الاحتلال الفرنسي للاسكندرية والقاهرة, والمنشور الذي وزعه نابليون على السكان المحليين كُتب وطبع باللغة العربية, يشرح فيه أسباب قدومه لمصر, وكأن هدفه ليس احتلال مصر أو مقاومة السلطان العثماني وإنما العكس تمامًا, مساعدة السلطان وأهل مصر من جور وظلم المماليك, بالرغم من أن الجبرتي كان معادياً للغزو الفرنسي وبرز ذلك بأسلوب كتابته الناقد واللاذع للجيش الفرنسي وقائده, إلا أن كتابه يعتبر وبحق المرجع التاريخي الرئيسي والأولي لوصف أحداث هذه الحقبة التاريخية المهمة في تاريخ مصر.
احتلال جيش فرنسي أجنبي لمصر وفرض سيادته وسلطانه على أبناء البلاد, ليس بالشيء المألوف والمقبول على أبناء الشعب المصري, ونابليون بونابرت وبالرغم من تأثره بأفكار الثورة الفرنسية من الحرية والديمقراطية وسيادة الشعب وسعيه لتطبيقها على الحكم والادارة بمصر, لم يلق آذاناً صاغية ورغم محاولاته المتكررة لإظهار نفسه أمام الشعب بأنه صديق للمسلمين ولأبناء الشعب المصري وأنه في الواقع يناصر ويساند السلطان العثماني في استانبول من ظلم وتمرد المماليك وسعي الانجليز للسيطرة على مصر وسعيه للتقرب من العلماء ورجال الدين ونشر المطبوعات والمراسيم باللغة العربية وبأنه يعترف بسيادة السلطان العثماني على مصر وأنه لا ينبغي سوى تنظيم شؤون البلاد الداخلية وتحرير شعبها من المماليك, إلا أنه كان لإعلان السلطان العثماني في سبتمبر عام 1798 الحرب على فرنسا وعقده اتفاقيات تعاون ودفاع مع روسيا وبريطانيا, قد خيّب آمال نابليون وأشعل نار العداء لنابليون والجيش الفرنسي من قِبَل الشعب المصري.
مع أن نابليون حاول تنظيم أمور السلطة والحكم في مصر وإصلاح الجهاز الإداري, فقد أمر بإقامة ديوان ضمّ كبار المشايخ وعلماء الدين بداية في القاهرة ومن ثم في بقية الألوية والمحافظات. وهذه الدواوين تمتعت بصلاحية تنفيذية بما يتعلق بالأمور المدنية والحياة العامة للسكان كالمراقبة والإشراف على الأسواق ودوريات شرطة للمحافظة على الأمن العام ومراقبة عبور القوارب والبواخر في النيل وما شابه, ومن ثم تمّ انتخاب ديوان عام شمل 25 عضواً, كان بمثابة البرلمان أو الجمعية التحضيرية والاستشارية لنابليون لإدارة شؤون مصر.
كما ذُكر سابقاً رغم التغييرات التي أدخلها نابليون في الإدارة والحكم لكن ذلك نُفذ بما يتلاءم والمصالح الفرنسية وبما يتماشى مع أهداف ومصالح نابليون نفسه. فألزم السكان المصريين برفع العلم الفرنسي في كل مكان, وتعامل الفرنسيون مع السكان المحليين كأسيادهم الجدد, والصلاحيات التنفيذية المهمة والواسعة بقيت من ضمن صلاحية القائد الأعلى وممثليه. وحينما أثقل نابليون أبناء الشعب المصري بالضرائب وانتشار أعمال القتل والنهب وأساليب المعاقبة الجماعية التي نفذها نابليون وجنوده بحق كل من يخالف أوامره, اثار هذا التصرف وهذه السياسة نقمة واستياء جماهير المصريين. وفي أكتوبر سنة 1798 ثار سكان القاهرة ضد الفرنسيين وقامت جماعات من المصريين بمهاجمة دوريات الفرنسيين وتعطيل طرق مواصلاتهم وأتباع القوات الفرنسية سياسة اليد الحديدية وأساليب القمع وإحراق القرى وما شابه لكل من خالفهم وقاومهم, كل ذلك لم يزد إلا من نقمة أبناء الشعب المصري ضد جيش الغزاة الفرنسي.
فشل نابليون بفرض السيطرة والهدوء في مصر ومحاولات المماليك الثأر من نابليون وجيشه بعد هزيمتهم أمامه بشن غارات بين الحين والآخر وإلحاق الخسائر في صفوف الجيش الفرنسي وإعلان السلطان العثماني الحرب والجهاد ضد نابليون وجيشه وتخوف نابليون من قدوم جيش عثماني ومواجهته في مصر, جعله يضع أمور مصر جانباً ويستعد لخطوته التالية, وهي مواجهة الجيش العثماني المتحالف مع الانجليز في الشام وليبدأ نابليون بالتحضير والاستعداد لشن حملة عسكرية على فلسطين والشام في بداية سنة 1799.
نتائج الحملة وتقييمها:
لحملة نابليون على مصر وفلسطين, أو الحملة الفرنسية على الشرق كما تعرف ببعض المراجع التاريخية والتي استغرقت ما يزيد عن الثلاث سنوات, كان بالغ الأثر التاريخي والحضاري والعسكري والاقتصادي والتي غيرت تاريخ المنطقة برمتها. فمع نزول قوات نابليون بونابرت في الإسكندرية عام 1798, تعتبر بداية النهاية لنفوذ المماليك في مصر ونشوء ما عُرف لاحقاً بالمسألة المصرية وبداية التدخل الأوروبي في شؤون الامبراطورية العثمانية والولايات العربية التابعة لها, وهذا ما تذكره كتب التاريخ وتعرفه بالمسألة الشرقية (The Eastern Question) .
حملة نابليون على مصر كانت أول حملة أوروبية مسلحة على الشرق الأوسط منذ الحروب الصليبية, وبداية التدخل الأجنبي المباشر في الشؤون الداخلية لولايات وشعوب المنطقة وانكسار الجيش الفرنسي في مصر برهن على أن اقتسام إرث الامبراطورية العثمانية لن يتم لدولة أوروبية واحدة ولا تستطيع فرنسا بمفردها, أو بريطانيا لوحدها من تحقيق ذلك دون التحالف مع بقية الدول الأوروبية.
لعل النتيجة الأكثر أهمية وعمقاً تبقى بعدما فشل نابليون على مشارف عكا وانكساره ورجوعه خاسراً لفرنسا, تمّ في الواقع القضاء على مطامع نابليون بونابرت الشخصية, بالسيطرة على الشرق والطريق التجارية للهند واحتلال أوروبا الشرقية, بعد أن يتم القضاء على السلطنة العثمانية في اسطنبول قبل ذلك, وتحقيق حلمه وطموحه بإقامة إمبراطوريته العظمى في أوروبا والشرق على غرار الاسكندر المقدوني العظيم.
أمام الانتصار البطولي وصمود أحمد باشا الجزار بمساعدة ومؤازرة الأسطول الإنجليزي بقيادة سيدني سميث, وفشل نابليون والجيش الفرنسي أمام أسوار عكا, تلاشت طموحات ومآرب نابليون بالاستيلاء على بلاد الشام والشرق قاطبة, ونجاح الجزار رفع من منزلته عند السلطان العثماني وفي أعين السكان المحليين, وبعد الحملة الفرنسية, أصبح الجزار الحاكم المطلق والأقوى ليس في عكا فقط, وإنما في الجليل وجزء كبير من بلاد الشام, لذا تراهُ يُرقى تقديراً لانتصاراته ومساعدته للسلطنة العثمانية, من قبل الباب العالي العثماني لباشا على دمشق, بالإضافة لحكمه على صيدا وطرابلس والجليل وأصبحت عاصمته الرسمية مدينة عكا ولعلها الفترة الذهبية لهذه المدينة في تاريخها. فبعد الحملة الفرنسية لم تعد فلسطين وعكا مجرد ولاية عثمانية نائية بل أصبحت محطاً للأنظار ومركزاً للصراعات الدولية في أوروبا ومن بؤر سباق التنافس والصراع الاستعماري بين الدول الأوروبية الكبرى - بريطانيا وفرنسا - للسيطرة والتأثير في الشرق الأوسط.
نتيجة لاعتداء نابليون على أملاك الامبراطورية العثمانية في مصر والشام, انضمت إلى تحالف "الحلف الثاني" سنة 1798 مع بريطانيا وروسيا والنمسا ضد فرنسا بعد أن كانت تركيا من أقوى أصدقاء فرنسا قبل الحملة. والأعمال البربرية والقتل والإعدام الجماعي للأسرى والجنود والمدنيين التي قام بها نابليون وجنوده في مصر وفلسطين فضحت نوايا فرنسا الاستعمارية, التي كانت تتستر عليها بستار مساعدة الأقليات والشعوب المضطهدة حسبما وردت في نتائج الثورة الفرنسية والتغييرات الاجتماعية والدستورية والسياسية التي حققتها حين اندلاعها.
عندما غزا نابليون مصر (1798) واستقر الفرنسيون في القاهرة والاسكندرية, أصبح تهديد نابليون للهند أعظم شغل شاغل للسياسة البريطانية. وبمغادرة نابليون لمصر سراً في آب عام 1799 وحتى مغادرة آخر جندي فرنسي مصر في آب 1801, زال عملياً تهديد نابليون للقضاء على الحكم البريطاني في الهند وانتهى أمره. بعدها أضعفت الحملة الفرنسية من قوة ونفوذ المماليك في مصر, من أهم نتائج الحملة الفرنسية بعد جلاء الفرنسيين بزوغ نجم محمد علي باشا وإقامته لولاية ودولة مستقلة في مصر – دولة محمد علي باشا - , الحاكم والوالي العثماني الطموح والذي يعتبر وبحق مؤسس مصر الحديثة (1805-1849).
خلال فترة مكوث الفرنسيين في مصر وبعدها تعتبر هذه الفترة نقطة تحول وملتقى حضاري ما بين الغرب والشرق (خاصة بمصر), وأدت إلى زيادة اهتمام الأوروبيين بمصر خاصة والشرق عامة. فنابليون يعتبر أول من أحضر أول مطبعة عربية إلى مصر (في بولاق) وقد جلبها من الفاتيكان. واهتم العلماء والخبراء الفرنسيون الذين رافقوا الحملة بدراسة وفحص وتحليل مختلف وجوه الحضارة المصرية, خاصة أعضاء "معهد مصر" (Institut d’Egypte) الذي أقيم وتأسس في القاهرة بعد الاحتلال مباشرة وضمّ نخبة العلماء والخبراء الفرنسيين. فقاموا بإجراء مسح جغرافي وميداني لمصر وراقبوا نهر النيل ورسموا خارطة جغرافية لمصر, وقاموا بدراسة آثار مصر. وفي عام 1799 عثر العلماء الفرنسيون على حجر رشيد الشهير وتمكن العالم الفرنسي شامبليون (Champolion) من فك وشرح الكلمات والرموز المكتوبة باللغة الهيروغليفية القديمة. وقد جمع العلماء الفرنسيون نتائج أبحاثهم ودراساتهم في مؤلف ضخم وقيم سُمي "وصف مصر" (Description de L’Egypte) الذي صدر في باريس عام 1809, هذا فضلاً عن نشوء وتطور مجال جديد في علم الآثار يهتم بالتجديد بالآثار المصرية (Egyptologie).
نتائج أخرى للحملة لا تقل أهمية عما ذُكر آنفاً, القضاء على الأسطول الفرنسي وخفض مكانة فرنسا كدولة بحرية في أعين الدول الأوروبية, وبالمقابل ارتفاع مكانة بريطانيا كدولة بحرية عظمى لنجاح أسطولها في القضاء على الأسطول الفرنسي. بما يتعلق بالسلطان العثماني والجيش العثماني فإذا دلت نتائج الحملة على شيء, فإنها تشير إلى مدى الضعف والتفكك الإداري والعسكري للسلطنة العثمانية في اسطنبول, في حين لم تستطع الدفاع عن أراضيها وممتلكاتها بقواها الذاتية, إلا بمساعدة دول أجنبية وإلى قيام وُلاة وحكام أقوياء فيما بعد, فاقت سلطتهم سيادة الدولة والسلطان العثماني والحديث عن محمد علي باشا في مصر, وأحمد باشا الجزار في فلسطين والشام.
الكاتب :علي حمود