المرحلة الثانية: من مجمع نيقية سنة 325م إلى الوقت الحاضر:
في سنة 325م أمر قسطنطين إمبراطور
الرومان بأن يعقد مجمع ديني يضم ممثلين لجميع الكنائس في العالم المسيحي
للفصل في أمر الخلاف بين أريوس ومعارضيه، ولبيان أي الرأيين يتفق مع الحق،
ولتقرير مبدأ صحيح يعتنقه المسيحيون فيما يتعلق بألوهية المسيح، ولاتخاذ
ما ينبغي اتخاذه من قرارات أخرى في شئون العقيدة والشريعة، فاجتمع في
نيقية ثمانية وأربعون وألفان من الأساقفة، ولكنهم اختلفوا اختلافاً كبيراً
ولم يستطيعوا الإجماع على رأي، ويظهر أن قسطنطين كان يجنح للرأي القائل
بألوهية المسيح، فاختار من بين المجتمعين ثمانية عشر وثلاثمائة من أشد
أنصار هذا المذهب، وألف منهم مجلساً خاصاً وعهد إليهم أمر الفصل في هذا
الخلاف واتخاذ ما يرون اتخاذه من قرارات أخرى في شئون العقيدة والشريعة،
على أن تصبح قراراتهم مذهباً رسمياً يجب أن يعتنقه جميع المسيحيين،
فانتهوا إلى عدة قرارات كان من أهمها القرار الخاص بإثبات ألوهية المسيح
وتكفير أريوس وحرمانه وطرده وتكفير كل من يذهب إلى أن المسيح إنسان،
وتحريق جميع الكتب التي لا تقول بألوهية المسيح وتحريم قراءتها.
وبذلك تقرر التثليث في الديانة المسيحية، وأصبح هو العقيدة الرسمية التي
يجب أن يعتنقها كل مسيحي، ويحكم بكفر من يقول بغيرها، وأخذت المذاهب
المسيحية الأخرى التي كانت منتشرة عند بعض الفرق المسيحية في المرحلة
الأولى، والتي أشرنا إليها فيما سبق، تتلاشى شيئاً فشيئاً، ويتضاءل عدد
أتباعها، حتى انقرضت كل الانقراض، سواء في ذلك مذاهب الفرق التي كانت
محافظة على التوحيد، أم مذاهب الفرق التي انحرفت عن التوحيد إلى عقائد
أخرى غير عقيدة التثليث، ولا نجد الآن أية كنيسة مسيحية ولا أية فرق من
المسيحيين لا تقول بالتثليث، ولكنهم جميعاً، مع ذلك يتسترون وراء كلمات
التوحيد، فيقولون " تثليث في وحدية " أو
"[light=99FF66]وحدية في تثليث[/light]" !! مع أنه لا يمكن أن يكون
التثليث وحدانية ولا الوحدانية تثليثا: { لقد كفر الذين قالوا أن الله ثالث ثلاثة، وما من إله إلا إله واحد } .
تقرر التثليث إذن في الديانة المسيحية على الوجه الذي سبق بيانه، وأجمع
على اعتناقه المسيحيون جميعاً. غير أنهم مع إجماعهم على هذه العقيدة، قد
اختلفوا فيما بينهم في أمور فرعية أخرى من عقائدهم وانقسموا إلى طوائف
كثيرة، وأعطت كل طائفة لنفسها، نتيجة لهذا الاختلاف، لقباً خاصاً بها،
ولكنها ما كانت تخرج في ذلك عن أحد لقبين وهما الكاثوليكية والأرثوذكسية.
فاختلفوا في طبيعة المسيح: هل طبيعته طبيعة واحدة لأنه إله؟ أم أن له
طبيعتين طبيعة إلهية وطبيعة إنسية ؛ لأنه ابن الله وابن الإنسان معاً
([light=CCFF66]فقد جاء من مريم، ومريم من البشر[/light]) فيكون بذلك قد
اجتمع فيه اللاهوت بالناسوت على حد تعبيرهم.
وقد أخذت بالمذهب الأول، وهو أن للمسيح طبيعة واحدة، وهي الطبيعة الإلهية،
ثلاث كنائس صغيرة من الكنائس التي سمت نفسها الأرثوذكسية: إحداها الكنيسة
الأرثوذكسية في مصر والحبشة (وتسمي نفسها كذلك الأرثودكسية المرقسية نسبة إلى الرسول مرقس صاحب الإنجيل، لأن بطاركتها يعتبرون أنفسهم خلفاء لهذا الرسول ).
وثانيها الكنيسة الأرثوذكسية السريانية التي يرأسها بطريرك السريان
ويتبعها كثير من مسيحيي آسيا، وثالثها الكنيسة الأرثوذكسية الأرمنية. ومع
أن الأرمن يتفقون مع الكنيستين السابقتين في القول بالطبيعة الواحدة
للمسيح فإنهم يختلفون عنهما في بعض التقاليد والطقوس، ولهم بطاركة
يرأسونهم، ولا يندمجون مع الكنيسة السريانية ولا مع الكنيسة المصرية،
وبذلك انفصلت هذه الكنائس الثلاث عن بقية كنائس المسيحيين .
وقد اكتسب هذا المذهب قوة بعد أن انتصر له في القرن السادس الميلادي داعية
قوى الحجة، بليغ الأثر، جرئ في الجهر برأيه، اسمه يعقوب البرادعي ، حتى
لقد أطلق على هذا المذهب اسم المذهب اليعقوبي وعلى أنصاره اسم اليعاقبة أو
اليعقوبيين.
وأخذت بالمذهب الآخر، وهو أن للمسيح طبيعتين طبيعة إلهية وطبيعة إنسية، أي
اجتمع فيه اللاهوت بالناسوت، جميع الكنائس الأخرى، وقرر هذا المذهب في
صورة حاسمة في مجمع خليكدونية المنعقد سنة 451، فقد انتهى هذا المجمع بعد
خلاف كبير بين أعضائه إلى القول بأن للمسيح طبيعتين لا طبيعة واحدة، وأن
الألوهية طبيعة وحدها والناسوت طبيعة وحده التقتا في المسيح.
وقد انتصر الإمبراطور الروماني لهذا المذهب، بل إنه هو الذي عمل على
اجتماع مجمع خليكدونية لينتهي إلى تقرير هذا الرأي في صورة حاسمة، ومن ثم
يطلق على هذا المذهب اسم المذهب الملكي أو الملكاني نسبة إلى الملك أي
إمبراطور روما.
ظهور " المارونية " :
وقد ظلت الكنائس التي تقول بالطبيعتين متحدة في جمع آرائها المتعلقة بشخص المسيح إلى أن ظهر في القرن السابع الميلادي (سنة 667) يوحنا مارون، فذهب
إلى أن المسيح، مع أنه ذو طبيعتين، له مشيئة واحدة وإرادة واحدة وهي
[light=FFFF33]المشيئة الإلهية والإرادة الإلهية[/light]، لالتقاء
الطبيعتين في أقنوم واحد إلهي وهو الابن أو الكلمة، وقد شايعه في هذا
الرأي بعض مسيحيي آسيا، ولم ترق هذه المقالة في نظر بابوات روما ورؤساء
الكنيسة الكاثوليكية، فأوعزوا إلى الإمبراطور أن يجمع مجمعاً ليقرر أن
المسيح ذو طبيعتين وذو مشيئتين بعد أن استوثقوا من أن الإمبراطور يشاركهم
هذا الرأي، فاجتمع لذلك مجمع القسطنطينية السادس سنة 680م وكان مؤلفاً من
289 أسقفا وانتهى إلى إصدار قرار بكفر يوحنا مارون ولعنه وطرده وكفر كل من
يقول بالمشيئة الواحدة .
وقد نزلت بعد ذلك بأصحاب المذهب الماروني القائل بالمشيئة الواحدة
اضطهادات شديدة، فأخذوا يفرون بدينهم من بلد إلى بلد إلى أن انتهى بهم
المطاف في جبل لبنان، واشتهروا
بلقب المارونيين، وظلوا مستقلين في شئونهم الدينية إلى أن قربتهم إليها
كنيسة روما فأعلنوا في سنة 1182 الطاعة لها مع بقائهم على مذهبهم القائل
بالمشيئة الواحدة، ولا تزال هذه الطائفة متوطنة في جبل لبنان، وإن كان قد
هاجر منها عدد كبير إلى قارة أمريكا وغيرها، ولها بطريرك خاص، وإن كان يقر
بالرياسة لبابا الكنيسة الكاثوليكية بروما.
وقد ظلت الطوائف القائلة بالطبيعتين والمشيئتين متفقة في آرائها إلى أن
نشب بينها في منتصف القرن التاسع خلاف بشأن الأقنوم الذي انبثق منه روح
القدس، فذهب بعض الطوائف إلى أن انبثاق روح القدس كان من الأب وحده، وذهب
بعضها الآخر إلى أن انبثاقه كان من الأب والابن معاً.
وكان ذلك سبباً في انقسام الكنائس القائلة بالطبيعتين والمشيئتين إلى كنيستين رئيسيتين:
إحداهما: الكنيسة الشرقية اليونانية؛ ويقال لها كذلك الكنيسة الشرقية فقط
وكنيسة الروم الأرثوذكسية، وهي التي يذهب أتباعها إلى أن روح القدس منبثق
عن الأب وحده، والمشايعون لها أكثرهم في الشرق وبلاد اليونان وتركيا
وروسيا والصرب وغيرها.
وثانيتهما: الكنيسة الغربية اللاتينية، ويقال لها كذلك الكنيسة الغربية
فقط، وكنيسة روما، والكنيسة الكاثوليكية، وهي التي تذهب إلى أن روح القدس
منبثق عن الأب والابن معا، والمشايعون لهذه الكنيسة أكثرهم في الغرب في
بلاد إيطاليا وفرنسا وبلجيكا وأسبانيا والبرتغال وأمريكا الجنوبية وبلاد
أخرى كثيرة.
ولما أحيط به رئيس كنيسة روما من تقديس بين مشايعيه وعند الملوك ورؤساء
الدول، ولكثرة معتنقي مذهبه، تتساهل الكنيسة الشرقية فتعترف له بالتقدم لا
بالسلطان